الأدب الإسلامي 

الخط عربة العلم

[ 3/3 ]

 

بقلم : الأديب الإسلامي معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

 

 

 


       ومن أراد المزيد في هذا الباب ، وعن أسباب العداوة بين أبي حيان والصاحب بن عباد، الذي قصده أبو حيان فخيّب أمله ، فليرجع إلى كتاب «أخلاق الوزيرين» ففيه تفصيل ضافٍ .

       وقد ألف كتابه هذا من حرقة أحسّ بها ، فصب جام غضبه عليه وعلى أبي الفضل بن العميد. ومن المناسب أن نعطي مثلاً يري مدى ما وصل إليه غضبه على الصاحب بن عباد، بسبب طلبه منه نسخ مجموعـــة من مجاميع كتبه، بدلاً من أن يبره كما كان متوقعًا ، وفاجأه بأن استغل حاجته أسوأ استغلال : يقــول أبو حيان في رسالة من رسائله:

       «وما ذنبي يا قوم إذا لم أستطع أن أنسخ ثلاثين مجلدة من هذا الذي يستحسن هذا الكلب؟! حتى أعذره على لومي على الامتناع ، أينسخ إنسان هذا القدر وهو يرجو بعدها أن يمتعه الله ببصره؟ أو ينفعه ببدنه؟».(1)

       هذه نافذة تُري الجهد الذي كان يصرف في النسخ ، والتعب والعناء الذي يأتي من ذلك ؛ فنحن اليوم عنـــدما نمسك بمخطوطــة نتذكر ذلك، ونستعيد حيالها عدد الأعين التي تلفت في النسخ، والأعمار التي أُفْنِيت في ذلك ، فتزيد قيمتها في نظرنا ، وتأخذ حقها من العناية والرعاية ، والمحافظة عليها .

       ومما يكمل الصورة ذكر ما عليه الورق ، واقتنائه، والعناية به ، وحفظه وصقله ، وإعداده للكتابة ، يقول صاحب معجم البلدان :

       «كان في خزانة كتب بهاء الدين عضد الدولة من أنواع الكاغد السمرقندي والصيني والعتيق كل طريف عجيب».(2)

       ويقول :

       «في الخزانة ، بياض صيني ، وعتيق مقطوع وصحيح».(3)

       وقد لا يعني لنا هذا كثيرًا ؛ لأننا لا نعرف عنها إلاّ ما يدل عليه تعددها وتنوعها ؛ ولكنها عند أهلها وزمنها تعني شيئًا كثيرًا يمكننا أن نتصوره من اللهجة التي قبل بها ذلك .

       ولعلّه من المناسب بعد أن ذكرنا شيئًا من النسخ، وما جر على أبي حيان، وما ألمحنا عن أدوات الكتابة ، خاصة الورق ، أن نعطي فكرةً خاطفةً عن سعر النسخ، لتكمل الصورة ، وتنتظم حلقات الخَط وما حوله :

       جاء في ترجمة يحيى بن زياد الفراء في تاريخ بغداد ما يأتي :

       «فلما فرغ من إملاء : «كتاب المعاني» خزنه الوراقون عن الناس، ليكسبوا به ، وقالوا لا نخرجه إلى أحد إلا من أراد أن ننسخه له على خمس أوراق بدرهم، فشكى الناس ذلك إلى الفراء ، فدعا الوراقين ، فقال لهم في ذلك . فقالوا :

       إنما صحبناك لننتفع بك ، وكل ما صنفته فليس بالناس إليه من الحاجة ما بهم إلى هذا الكتاب، فدعنا نعش به .

       قال: فقاربوهم ، تنتفعوا وينتفعوا .

       فأبوا عليه .

       فقال: سأريكم ، وقال للناس : إني مملٍ كتاب معانٍ أتم شرحًا، وأبسط قولاً من الذي أمليت .

       فجلس يُمل ، فأملَّ «الحمد» في مئة ورقة . فجاء الوراقون إليه ، فقالوا: نحن نبلغ الناس ما يحبون ، فنسخوا كل عشر أوراق بدرهم».(4)

       ولنعرف مقدار ما نسخ في ضوء حركة التأليف حينئذ ، وفي ما سبق أن أُلِّف مما يحتاج الناس إلى نسخه، يمكننا أن نعطي نماذج لما ذكر لدى الناس من كتب ، يشار إليها عرضًا فيما بين أيدينا من معلومات ، ولو أحصيت لكانت شيئًا عظيمًا ، يبين قدره ما حدث للفرات أو دجلة من تغير نتيجة ما رمي فيهما من كتب أحرقت على يد التتار عند دخولهم بغداد :

       جاء في ترجمة علي بن أحمد الفارسي الأندلسي:

       «أخبرني ابنه المفضل ، المكنّى أبا رافع : أن مبلغ تواليفه في الفقه والحديث والأصول ، والنِّحَلِ والملل ، وغير ذلك من التاريخ والنسب ، وكتب الأدب ، والرد على المعارض ، أربع مئة مجلد ، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة .

       وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في دولة الإِسلام قبله ، إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري».(5)

       فماذا قال صاحب معجم الأدباء عن الطبري؟ يقول عنه :

       «حَصَّلَ قوم من تلاميذ محمد بن جرير الطبري، أيام حياته ، منذ بلغ الحلم إلى أن توفي ، وهو ابن ست وثمانين ، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته ، فصار منها على كل يوم أربع عشرة ورقة ، وهذا شيء لايتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق».(6)

       وخبر آخر ساقه أيضًا صاحب معجم الأدباء:

       «يحكى أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة».(7)

       ومثل آخر على مقدار ما يمكن أن يقع على كاهل النساخ من عبء ، وما يرتزق من ورائه الوراقون ، ويرتوي منه طلاب العلم ، ويرجو من ورائه العلماء من أجر، ويأتي لنا نحن بالدهشة والاستغراب :

       «أملى محمد بن عبد الواحد البارودي من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة».(8)

       ويزيد الصورة وضوحًا ، والأمر جلاءً، واستغرابنا دهشة ، ما يُروى في هذا المجال عن حجم أحمال الكتب عند نقلها من مكان إلى مكان ، وهذا مجال للحديث عما يأتي منها خارقًا للعادة ، ومخالفًا للمعتاد ، ومجانبًا للعرف ، والقول الآتي يمثل ذلك :

       «يروى عن محمد بن واقد الواقدي المدني :

       «لما تحول الواقدي من الجانب الغربي يقال: إنه حمل كتبه على عشرين ومئة وقر؛ وقيل: كان له ست مئة قمطر كتب».(9)

       والنهضة الفكرية ، والإِقبال على العلم والثقافة كان عظيمًا ، مما جعل التنافس في اقتنَاء الكتب ، والمؤاجرة على نسخها أمرًا منقطع النظير، ولعل غير العلماء والمنتفعين رأوا الاتجاه في مجتمعهم ، فرأوا ألا يكونوا خارج الدائرة ، خاصة إذا كانوا موسرين، وبإمكانهم شراء كتب ثمينة ، ذات مظهر جميل ، يزينون بها بيوتهم ، ليرتفع قدرهم عند الناس ، وقصة الأندلسي الذي أخذ يساوم وَ يزايد في مجلد جميل فرفعه إلى سعر تعدى حدود المعقول ، فسأل العالم الذي كان يزايد في الطرف الآخر من السوق عن هذا الذي في الجانب الآخر ينافسه ، ولما عرفه قال له: إن كنت في حاجة إليه إلى هذا القدر فسوف أوقف المزايدة ، ولم أزد في السعر إلا لحاجتي إليه ، فقال الآخر إنني لا أقرأ ولا أكتب، وإنما رأيت أن هذا الكتاب بحجمه وتجليده ، يوافق مكانًا شاغرًا في رف خزنة كتب عندي ، فأردت أن أسد به هذه الثغرة ؛ ولما علم عن حاجة الآخر إليه أوقف المزايدة فيه .

       ولهذا قال الشاعر منبّهًا الذي يجمعون الكتب، وهم كالحمار يحمل أسفارًا :

        «من شعر سعيد بن المبارك المعروف بابن الدهان:

لاتحسبنّ أن بالكتـْ      ـــب مثلنـــا ستصير

فللــدجـاجة ريش     لكنهــــــــا لا تطـير» (10)

       ولكن هؤلاء شواذ ، يغطون عن نقصهم بهذا المظهر الزائف ، ويكملونه بهذا التصنع المكشوف، الذي يسيء إليهم من حيث يظنون أنه يحسن ، ويضرهم من حيث يظنون أنه ينفع ، أما الكتب فقد ألفها مؤلفوها ، ونسخها ناسخوها ، لمن يقرؤون ، يمضون النهار في القراءة ، ويتبعونه بالليل على ضوء الشمع والسرج ، لايتركون دقيقة تمر دون أن يستفيــدوا منها ، فهي إما للكتـابــة أو للقراءة ، أو للراحة استجمامًا، واستعدادًا للمعاودة؛ أفنوا أعمارهم في سبيل العلم ، وعشيت أبصارهم من أجله ، وكلما درسوا زادوا نهمًا ، وكلما تعلموا تطلعوا إلى وراء ما عرفوا ، لايرون لعلمهم سقفًا ، ولا لطلبه حدًا ؛ نذروا حياتهم للعلم ، وأوقفوها عليه ، وهنا بعض أمثلة تري إصرارهم، وأسباب ما وصلوا إليه من ذلك :

       «حدث أبو هِفَّان قال :

       «لم أر قط ، ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ ، فإنه لم يقع في يده كتاب إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان ، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ، ويبيت فيها للنظر .

       والفتح بن خاقان ، فإنه كان يحضر لمجالسة المتوكل ، فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتابًا من كمه أو خفّه ، وقرأهُ في مجلس المتوكل إلى حين عوده إليه ، حتى في الخلاء .

       وإسماعيل بن إسحق القاضي ، فإنى ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر في كتاب ، أو يقلب كتابًا ، أو ينفضها».(11)

       لهذا ازدهر العلم في زمنهم ، واعتلى شأن الكتاب، فانتشر بينهم ، ودفعوا فيه أموالاً طائلة، وأوسعوا مكانًا فسيحًا له في بيوتهم وفي صدورهم، فارتقى عندهم ، وارتقوا هم عند أنفسهم ، واعتلوا على الشعوب الأخرى ، وفتحوا العالم ، فسطع نور العلم منهم إليه .

       والغربيون اليوم أخذوا منا هذه العادة الحسنة بعدما أمتناها ، فأحيوها ، واستفادوا منها منتهى الاستفادة ؛ ترى الكتاب معهم في كل مكان ، يقرؤون في كل وقت ، فيقرؤونه في القطار، ويلتهمون صفحاته وقوفًا في الصف ، انتظارًا في «طابور» لأخذ تذاكر، وفي مظلةِ انتظار السيارة كتابهم في يدهم ، وفي معرض الطيران ، وفي سباق السيارات ، وفي ملاعب الكرة ؛ حتى إذا دخل أحدهم المطعم ، فإنه يقرأ انتظارًا للطعام، فإذا جاء الطعام فإنه لا يوقف القراءة ، فلقمة لِفَمِه ، ولقمة لعقله ، مثلما كان يفعل الفتح بن خاقان عندما ترك الخليفة المجلس لحاجة إلى أن عاد ؛ وارتفع الأوروبيون بهذا كما سبق أن ارتفعنا ، وأَمَتْنَا هذه العادة فتر دينا وهوينا .

       لقد أدرك الطابعون والكتاب والناشرون أهمية هذا الاتجاه عند الناس في الغرب ، واعترفوا بهذا النهم للكتب ، فقدروه بأن قابلوه بما يشجعه ويعضده ، ويساعد الناس في هذا الاتجاه الخيِّر، فطبعوا طبعات «جيب»، يأخذها الشخص معه أينما ذهب ، وإلى أي جهة رحل ، مثلما فعل الفتح ابن خاقان بالكتاب الذي وضعه في كمه ، أو في ساق خفه ! فهل يعود الماء يومًا إلى مجراه ، ونرى الكتاب يعتز من جديد ، ويأخذ مكانه الحضاري اللائق به ، رغم الآفات المحيطة به ، من صحف ومجلات ، ومذياع وتليفزيون وفديو، وما أدراك مما لم يخرج من بيضة العجائب حتى الآن !!

       ولم يكن الفتح بن خاقان هو الوحيد الذي يمكن أن يمثل الصورة الجميلة لطلب العلم والقراءة، وإنما هو نموذج واحد ، مثّل في هذه الحالة مثلاً واحدًا في هذا الجانب الثقافي المنير، وهناك جوانب أخرى كثيرة ، ولعلّ في المثل الآتي توضيحًا أمينًا لجانب آخر، فإذا كان الفتح مثل جانب الحرص في حمل الكتاب وقراءته عند أقرب فرصة تسنح له ، فإن الفقيه أبو الوليد في حديث له مع ابن حزم ، يحمل نغمة الاعتذار في التقصير في طلب العلم ، شعّ نورًا ساطعًا ، يرفع منزلته ويعلي قدره، لأنه يدل على كفاحه في طلب العلم إلى الحد الذي جعله يستعين في الليل بأبراج الحراس، يستفيد من نورها ، إذ لا يملك ما يوفر به لنفسه نورًا ؛ وفي رد ابن حزم ما عدل الكفة ، فإذا كان هذا كسب من هذا الطريق الصعب علمًا ، فإن ابن حزم أضاع العلم نتيجة الوجد والغنى .

       وابن حزم كان بعيدًا عن حياض العلم ، نائيًا عن وردها ، إلى أن قيض الله حادثة نبهته ، وموقفًا أيقظه ، فارتشف من منهل العلم ما أروى ظمأه ، وعوضه خيرًا عما فاته :

       قال لي الوزير أبو محمد بن العربي:

       أخبرني الشيخ الإِمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه ، فدخل المسجد قبل صلاة العصر، والخلق فيه، فجلس ولم يركع، فقال له أستاذه – يعني الذي رباه – بإشارة أن قم، فصلّ تحية المسجد ، فلم يفهم .

       فقال له بعض المجاورين له : أبلغت هذا السن، ولاتعلم أن تحية المسجد واجبة؟ وكان قد بلغ حينئذ ستة وعشرين عامًا، قال: قال: فقمت وركعت، وفهمت إذن إشارة الأستاذ لي بذلك .

       قال : فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركة للاحبَاء من أقرباء الميت، دخلت المسجد، فبادرت بالركوع، فقيل لي: اجلس، اجلس، ليس هذا وقتَ صلاة .

       فانصرفت عن الميت، وقد خزيت، ولحقني ما هانت عليّ بـــه نفسي ، وقلت للأستاذ: «دُلَّني على دار الشيخ الفقيـــه ، المشاوَر أبي عبد الله بن دَحُّون، فدَلَّني فقصدته من ذلك المشهد. وأعلمته بما جرى فيــــه . وسألت الابتــــداء بقراءة العلم ، واسترشدته؛ فدلني على كتاب الموطأ لمالك بن أنس – رضي الله عنه – فبدأت به عليه قراءة من اليوم التالي لذلك اليوم .

       ثم تتابعت قراءتي عليه، وعلى غيره، نحو ثلاثة أعوام. وبدأت بالمناظرة.. ».(12)

       إن المحيط المليء بالعلم ، الذي عاش فيه ابن حزم، سرعان ما رده إلى حظيرته، وأغراه بالولوج فيها، فجاء منه ما جاء، وأصبح إمامًا يُقْتَدَىٰ بآرائه، وصار له مدرسة منفردة متميزة ، لها مريدون ومعجبون .

       ونعود مرة أخرى إلى الخط وتحسينه، والعناية به، وهو أمر لم يبدأ في العصر الأموي أو العباسي؛ ولكنه سبق ذلك ، ولعل من أقدم النصوص في هذا ما رُوِي عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ولا عجب في هذا فهو كاتب الوحي لرسول الله ومن أهمية عمله ، وانطلاقًا من تجربته يتوقع منه الإِرشاد للمبتدئين، ووضعهم على الطريق الصحيح فيه، ما داموا غضين، وفي أول الطريق :

       قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكاتبه عبيد الله ابن أبي رافع: «إذا كتبت فألن دواتك، وأطل من قلمك، وفرج بين السطور، وقارب بين الحروف».(13)

       وهذه النصيحة تُحْتَفَظُ بقيمتها إلى اليوم، ومن راعاها سوف يجد أن الصفحة التي كتبها قد ابتسمت، والكلمات واضحة، وأصابع الذي كتبها في راحة لا يشوبها عناء. ولقد كانت النصيحة في محلها، ولا يعيب رئيس الدولة أن يدخل في مثل هذا التوجيه الجزئي، أو يهتم بهذا الأمر الجانبي، لأنه أول من سوف يعاني من أي خطأ يقع فيه الكاتب، وعلى كتفه سوف تقع آثامه، وعلى كتفه سوف يستقر عبؤه، وما أمر ما حدث لخطاب الخليفة سليمان بن عبد الملك من تحريف، وما نتج عنه من ضرر بسبب «نقطة»، هذا إذا صح الخبر، ولم يكن الفعل مقصودًا، وأن زَعْم التحريف ما هو إلا عذر:

       «إن سليمان بن عبد الملك كتب إلى ابن حزم عاملــه على المدينــة أن يحصي المخنثين الذين بالمدينـــة، بالحاء المهملة ، أي يعدهــم، ليرى فيهم رأيـــه، فوقع للكاتب نقطة على الحاء، فصيرتها خاءًا، معجمة .

       فلما وصل الكتاب إلى ابن حزم خصاهم من ساعته .

       ويقال : بل كتب إليه بخصائهم على الحقيقة، من غير إشكال، ولا تراجع في أمرهم».(14)

       ويعلق أبو الفرج الأصبهاني على الخبر بقوله:

       «زعم موسى بن جعفر بن أبي كثير قال:

       أخبرني بعض الكتاب قال:

       قرأت كتاب سليمان في الديوان: فرأيت على الخاء نقطة كتمرة العجوة .

       قال: ومن لا يعلم يقول: إنه صحف القارئ، وكانت: (أحص) ».(15)

       وسواء وقع ما وقع بالتصحيف ، نتيجة عدم العناية بالخط ، ونقص حسنه وإتقانه ، أو لم يقع فإن احتمال وقوعه بسبب الخط يكفي لتصور فداحة الخطأ بسبب نقطة . وقد قيل مثل هذا عن الكلمة التي قيل إنها حرفت في خطاب عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى واليه بمصر، بأن «يقتل» القائمين عليه، بدلاً من كلمة «يقبل» وقد طُعِنَ في هذه القصة أيضًا، وقيل إنها مفتعلة ولم تحدث .

       أما الإِشكال الذي يبدو أنه لايعتريه الخلل فهو ما رُوِي عن أثر سقوط النقطة من حرف ، أدى إلى تفسير مختلف ، عند واحد من العلماء ، حتى كاد يحرم ما أحل الله . وذلك عند ما قرأ عدم جواز «تشقيق الحطب»، والمقصود: «تشقيق الخُطَب»، بمعنى التكلف فيها والتشدق .

       ولم يكن الخليفة علي بن طالب – رضي الله عنه – وحده من اهتم بتوجيه الكاتب وإرشاده ؛ بل هناك آخرون أيضًا ، ومنهم الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – فقد كان له رأي ثمين أهداه إلى عماله ، لينقلوه إلى كتابهم ، مع نصبهم رقباء عليهم في التنفيذ :

       «كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله :

       إذا كتبتم فَأَرِقُّوا الأقلام ، وأقلوا الكلام، واقتصروا على المعاني، وقاربوا بين الحروف ، تكتفوا من القراطيس بالقليل».(16)

       وقد التقى في خطابه هذا مع علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في المقاربة بين الحروف، وأعطى التعليل لذلك من منطلق التقوى، فهو لايريد أن يسرف الكتاب في الورق، ولا أن يتباهوا بالخطوط، وهمه صحة ما يكتب، وصواب ما يقال، مع دقة المعاني، وحسن جمالها لما حُملت .

       هذا والخط الحسن يساعد على تدبر المعاني، وانصباب الذهن إليها بدلاً من اتجاهه لحل مغلق الخط ، ومعالجة رداءته، مما يشغل القارئ بالوسيلة عن الغاية، وهذا قلب للأوضاع، وتوجيه للأمر غير وجهته، ومما قيل في هذا :

       «قالوا: الخَط الحسن يزيد الحق وضوحًا».(17)

       وقد أعطوا أهمية لما يُكْتَب، لأنه لم يُكْتَب لوقت حاضر، وزمن محدد؛ بل كُتِبَ ليبقى، يجاهد الزمن، ويتخلل العصور، ويمر عبر الحقب؛ ويكون واضحًا مقبولاً في كل زمان، وقد قالوا عنه مقارنة بالقول الذي ينقطع بمجرد انتهاء قائله منه:

       قال ابن القريّة :

       خط القلم يقرأ بكل مكان، وفي كل زمان، ويترجم بكل لسان، ولفظ الإِنسان لايجاوز الآذان».(18)

       وإذا كان هذا رجع صدى اهتمامهم بالخط والكتابة ، فلأنهما الوسيلة الرئيسة لعرض الكتاب، والاستفادة منه الاستفادة الكاملة .

       ولعل من المناسب أن نختم قـــولنا في مقــالنا هذا بأبيات شعرية، تكشف نظرتهم للكتاب، وتقديرهم له:

       «أنشــد محمد بن زياد، المعروف بابن الأعرابي:

لنا جلســـاء مــــــا نمـــلّ حـــــديثهم

ألبّاء مأمــــــونون غيــــبًا ومشهـــــــدًا

يفيـــدوننا من علمهم علم ما مضى

وعقـــلاً وتــــأديبًا ورأيــًــا مســـــددًا

فلا فتنـــــة تخشى ولا ســوء عشـرة

ولا يتقـــى منهم لسانًــا ولا يــــــدًا

فإن قلت: أموات فما أنت كاذب

وإن قلت : أحياءٌ فلست مفندًا» (19)

*  *  *

الهوامش :

(1)          معجم الأدباء : 15/35، ترجمة : علي بن محمد (أبو حيان التوحيدي).

(2)          معجم الأدباء: 15/123، ترجمة: علي بن هلال (ابن البواب).

(3)          معجم الأدباء: 15/124، ترجمة: علي بن هلال (ابن البواب)

(4)          معجم الأدباء: 14/150، ترجمة: يحيى بن زياد الفراء.

(5)          معجم الأدباء: 12/238، ترجمة: علي بن أحمد الفارسي.

(6)          معجم الأدباء: 18/33، ترجمة: محمد بن جرير الطبري.

(7)          معجم الأدباء: 18/42، ترجمة: محمد بن جرير الطبري.

(8)          معجم الأدباء: 18/228، ترجمة: محمد بن عبد الواحد (المطرزالباوردي).

(9)          معجم الأدباء: 18/281، ترجمة: محمد بن واقد الواقدي.

(10)      معجم الأدباء: 11/222، ترجمة: سعيد بن المبارك (ابن الدهان).

(11)      معجم الأدباء: 16/75، ترجمة: عمرو بن بحر الجاحظ.

(12)      معجم الأدباء: 12/241، ترجمة: علي بن أحمد بن حزم الفارسي .

(13)      بهجة المجالس : 1/356.

(14)      تحفة العروس : 247، الديارات : 85، 87.

(15)      الديارات : 85.

(16)      بهجة المجالس : 1/157.

(17)      بهجة المجالس : 1/357.

(18)      بهجة المجالس : 1/357.

(19)      معجم الأدباء: 18/195، ترجمة: محمد بن زياد (ابن الأعرابي).

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية - رجب 1427هـ = يوليو - أغسطس 2006م ، العـدد : 6-7 ، السنـة : 30.